لا يختلف إِثنان على أهمية الخطاب الديني في الصراع مع العدو الإسرائيلي، ذلك أن البعد الديني في الصراع هو الذي يحّرك الجماهير ويدفعها لتجاوز واقعها المتردي ويمنحها الصبر والثبات والثقة بالنصر. وقد ظل البعد الديني حاضراً في هذا الصراع منذ نشأته، ولكنه اليوم أكثر وضوحاً وبروزاً في التصدي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فأصوات علماء الدين والدعاة وخطباء المساجد، تملأ الساحة الإسلامية، بيد أن المتأمل في هذا الخطاب يجد أنه يجتر مقولات ومفاهيم خاطئة يستقيها من التراث الإسلامي القديم منه والمعاصر على حد سواء دون أن يتنبه إلى ما تلحقه من تداعيات سلبية على الموقف الإسلامي وعدالة القضية التي يدافع عنها. بل وأكثر من ذلك لا يدرك أصحاب هذا الخطاب أنهم يعززون الفكرة الصهيونية دون قصد، وهو ما يستوجب ضرورة مراجعة هذه المفاهيم والمقولات -وهي كثيرة- على ضوء المقاصد الشرعية والمصالح الآنية والمستقبلية، لا أوهام المفسرين وخزعبلات المتأولين، وسنحاول التطرق إلى بعضها فيما يلي.
[1] في التعريف بالعدو:
«صهاينة وإسرائيليين، لا يهوداً»
يفضّل الخطاب الإسلامي- خصوصاً الجماهيري- إطلاق لفظ اليهود والعدو اليهودي، بدلاً من الصهيونية والعدو الصهيوني اللذين استخدمهما الخطاب العربي الرسمي ذات زمن، وذلك لما في مصطلح اليهود واليهودية من دلالات دينية، حيث ورد الحديث عنهما بكثافة في كثير من سور القرآن الكريم وهو ما يمكّن هؤلاء من توظيف الخطاب القرآني عن اليهود في معركتنا مع الصهاينة اليوم، ونحن نعتقد أن هذا الأسلوب خاطئ وضار في نفس الوقت للأسباب التالية:
1- إن إسقاط ما ورد بشأن اليهود في القرآن الكريم على يهود العصر الحديث يفترض وجود تطابق حول المقصود باليهود في القرآن ويهود هذا العصر، وهذا أمر غير مُتحقق؛ فكلمة يهود في القرآن تعني أتباع الكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام، ورغم أنهم قاموا بتحريفه أو أصروا على إتباع المحرّف منه، فإن ثمة مبادئ أساسية وردت فيه لم يتم تحريفها منها الإيمان بالله واليوم الآخر؛ هذا التعريف الإسلامي لو طُبِّق على يهود العالم الحديث لتم استبعاد ما يزيد عن 90 % منهم، إذ تظهر الإحصائيات أن 50 % منهم ملحدون وغير دينيين و40 % يتعذر قبولهم يهوداً وهم الإصلاحيون والمحافظون والتجديديون، وربما قُبل الـ10 % الباقية فقط، وهم الأرثوذكس، ويبدو أن العدد تراجع ليصبح 7 في المائة [انظر د. عبد الوهاب المسيري في آخر كتاب له بعنوان” من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟” الصادر عام 2008]، وما دام أن المسلم ملزم بالتعريف الإسلامي لليهود فإنه لا ينبغي إطلاقه على من لا ينطبق عليه هذا التعريف وإن ادعى اليهودية.
2- إن الصهيونية هي حركة استعمارية عنصرية حاولت توظيف الأساطير اليهودية والتلمودية لإقامة دولتها في فلسطين، وبالتالي فهي دولة وظيفية أُوكلت إليها وظيفة حماية المصالح الغربية، والحديث عنها يجب أن لا يطمس هذه الحقائق، إذ ينبغي الاستمرار في الحديث عن الصهيونية وجرائم الصهيونية والمؤامرة الصهيونية، بدلاً من الحديث عن اليهودية، وجرائم اليهود، ومؤامرات اليهود، لأن ذلك يعزز مقولات ومصطلحات الصهيونية “الشعب اليهودي” و”الشخصية اليهودي” و”المصالح اليهودية” وأخيراً “الدولة اليهودية” التي يدعي الصهاينة أن اليهود في حالة شوق دائم للعودة إليها باعتبارها أرض الميعاد، وهو ما لا يجد له سنداً في الواقع، إذ على الرغم من ضخامة الدعاية الصهيونية والدعم الاستعماري الغربي لها في الترويج للهجرة إلى أرض الميعاد، إلا أن الأرقام الواردة في كل الإحصائيات الإسرائيلية تبين أن 58 % مما يسمى بالشعب اليهودي لا يزال خارج إسرائيل بكامل إرادته، ولا يوجد سوى 42 % منه أي 4.9 ملايين نسمة في إسرائيل، وهذا يعني بحسب المسيري “أن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أنحاء العالم لا يبحثون عن أرض أو وطن، وإنما يندمجون في المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، ولذا تصر جامعة “يار ايلان” في إسرائيل على ضرورة عقد مؤتمر دولي حول موضوع الاندماج، باعتبار أنه يشكل خطورة حقيقية على الصهيونية، لأنها كما قال أي. إف. ستون المفكر اليهودي الأميركي “تعيش على الكوارث التي تحيق باليهود، ودون كوارث لا يمكن أن تقوم لها قائمة؟”.
[2] في تاريخ الصراع:
«منذ مطلع القرن العشرين، لا منذ فجر الإسلام»
بدأ التآمر الصهيوني على فلسطين متزامناً مع الاستعمار الغربي، بيد أن كثيراً من العلماء ولأنهم يتحدثون عن اليهود وليس عن الصهاينة يرجعون ذلك إلى فجر الإسلام، مُذكّرين بيهود خيبر وبني قينقاع في المدينة المنورة ليصلوا إلى استنتاج مفاده أن التآمر والعداء اليهودي للمسلمين بدأ منذ ذلك الحين ولا يزال مستمراً وسيظل كذلك إلى أبد الآبدين، مستشهدين على ذلك بقوله تعالى: “ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ” (المائدة: 82). والحقيقة أن هذا التفسير الشائع للآية ينتزعها من سياقها وأسباب نزولها، التي كانت تصف حالة محددة واجهتها دولة الإسلام في المدينة المنورة حيث كان اليهود فيها هم أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم ودينه الجديد، يليهم مشركو قريش، في حين كان بعض النصارى وتحديداً النجاشي ونصارى الحبشة أقرب الناس مودة للمؤمنين، وهو ما ظهر في هجرة المسلمين إليهم فراراً من أذى قريش. وهذا الواقع الذي وصفته الآية لا يعني أنه سيظل كذلك أبد الدهر، وليس في الآية ما يشير إلى هذا التعميم الخاطئ، والواقع التاريخي يؤكد ذلك؛ فبعد أن تم طرد يهود المدينة الذين تآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد معه، والذين كانت تعنيهم الآية السابقة أصبح العدو الأول هم مشركو قريش، وبعد فتح مكة أصبح النصارى (الروم تحديدا”) هم العدو الأول، وقد استمروا كذلك حتى اليوم، في حين أصبح اليهود يعيشون حياتهم كأهل ذمة بكل حرية وحظوا بالحماية والرعاية، وأصبح الكثير منهم أصحاب ثروة ونفوذ، حتى أن الخليفة الفاطمي العزيز بالله ولّى بالشام يهودياً اسمه “منشا”، وفي عهد الخليفة الفاطمي الظاهر وُلي الوزارة بالقاهرة أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، وكان يهودياً ثم أسلم، وكان يدير الدولة معه أبو سعد التستري اليهودي، وقد أثار ذلك حفيظة كثير من المسلمين
حتى قال الشاعر المصري الحسن بن خاقان:
يهود هذا الزمان قد بلغوا غاية آمالهم وقد ملكوا
العزّ فيهمُ والمال عندهم ومنهم المستشار والملكُ
يا أهل مصر إني نصحت لكم تهوّدوا قد تهوّد الفَلكُ!
فلوا أن المسلمين كانوا يرون أن اليهود هم أشد الناس عداوة لما حظوا -وهم أقلية- بهذه المكانة، لكنهم كانوا يدركون أن الآية إنما كانت تعني يهود المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، أما في عصرهم والعصور التي تلتها، فلم يكونوا كذلك، بل على العكس أصبحوا أقرب مودة للذين آمنوا من النصارى المعاصرين لهم؛ فحينما نشبت الحروب الصليبية وفي الوقت الذي وقعت فيه جماعات من النصارى العرب مع المحتلين، وقف اليهود مع المسلمين وحارب كثير منهم في صفوف المسلمين ضد بيزنطة وممالك الفرنجة، بل وأكثر من ذلك كانت الجماعات اليهودية في الغرب متعاطفة مع المسلمين، وقد اُتّهم الكثير منهم إبّان تلك الفترة بالتجسس لصالح المسلمين، حتى أن بعض الرسوم المسيحية في العصور الوسطى تصور الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يجلد المسيح مع اليهود كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري. وعندما أسقط الأسبان الحكم الإسلامي في الأندلس اضطهدوا المسلمين واليهود على حد سواء، ولجأ عدد كبير منهم إلى بلاد المغرب العربي وغيرها من ديار الإسلام التي آوتهم واحتضنتهم، ولكن الكثير منهم للأسف تنكر لهذا المعروف وانخرط في المشروع الصهيوني وهاجر إلى فلسطين كمستعمر، فأصبح من أشد الناس عداوةً للذين آمنوا لهذا السبب ومنذ ذلك الوقت فقط وليس دائماً ولا عبر التاريخ.
[3] لماذا نعاديهم ونكرههم:
«لأنهم مُحتلّون، لا لأنهم يهود»
يميل الخطاب الإسلامي المعاصر في إطار التعبئة الجماهيرية ضد إسرائيل إلى إثارة الكُره تجاه اليهود باعتبارهم يهوداً كانوا وما زالوا وسيظلون أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهذا خطأ كما مر معنا. وهو لا يعني التقليل من أهمية البعد الديني في الصراع مع إسرائيل، فهذا البعد يظل قائماً ولكن لسبب آخر، وهو أنهم محتلون، ولأن الفلسطينيين مظلومون، وهو ما يوجب نصرتهم وقتال من يظلمهم بغض النظر عن عقيدته، فلو كان المحتلين لفلسطين مسلمين مثلاً لوجب علينا قتالهم حتى نرجع الحق لأهله، ولو كانوا غير مسلمين، قال تعالى: “ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ” (النساء: 75)، وهذا هو سبب عداءنا للصهاينة، أما غيرهم من اليهود الذين لم يشاركوا في العدوان على فلسطين فإن التعامل معهم ينبغي أن يكون على أساس البِر والتقوى. قال تعالى :” {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} [الممتحنة]
وعلى ذلك فإن إثارة الكراهية ضد اليهود لأنهم يهود أو لأن القرآن قد حدثنا عن أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، هو أمر غير مقبول شرعاً، فضلاً عن التداعيات السلبية التي يمكن أن تنتج عن مثل هذا الخطاب وهي كثيرة منها:
1- أن التعبئة ضد اليهود كيهود وليس ضد الصهاينة كمحتلين ومعتدين فيه ظلم وتجني على جماعات ومنظمات وشخصيات يهودية منتشرة في أنحاء العالم، تعارض الصهيونية وتقف ضد دولة إسرائيل وتتعاطف مع القضية الفلسطينية، وقد خرج الكثير منهم منددين بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وبالتالي فإنه لا يجوز شرعاً ولا عقلاً ولا مصلحة أن نجعل الجميع في سلة واحدة، وندعو عليهم جميعاً بالهلاك والدمار، وإذا كان القرآن يأمرنا بالقسط والبِر -وهو أعلى درجات المودة- مع الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا، فما بالك بمن يتعاطف معنا ويقف إلى جانبنا. إن الواجب الشرعي والأخلاقي فضلاً عن المصلحة السياسية، تقضي أن نوجه لهم الشكر والإشادة وأن نحاول الاستفادة من مواقفهم، بدلاً من استعداءهم.
2- إن التعبئة على أساس كُره اليهود كيهود هو أمر يشجعه الصهاينة، لأنه يصب في صالح المشروع الصهيوني؛ فاليهودي الذي يشعر أنه مكروه ومنبوذ من قبل الأغلبية في المجتمع الذي يعيش فيه، سيتحول شيئاً فشيئاً من “مواطن” مسالم يعمل في بلده إلى “مستوطن” يقاتل في القدس أو غزة أو الضفة الغربية، ويتحول من يهودي لا يكترث بالصهيونية وربما يعاديها إلى يهودي يرى أن الصهيونية ستُنقذه مما هو فيه، وأن إسرائيل هي بالفعل أرض الميعاد، وهذا هو ما حدث من نتائج اضطهاد هتلر والنازية لليهود، إذ دفعهم ذلك للهجرة إلى فلسطين فساهموا بما يملكون من خبرة ورؤوس أموال في انتعاش وازدهار المشروع الصهيوني، وقد صدق ستون المفكر اليهودي المعادي للصهيونية عندما قال: “إن الصهيونية تعيش على الكوارث، وأنه لو اختفى كُره اليهود والتعصب ضدهم لاختفت معهما الصهيونية”.
3- إن التعبئة القائمة على أساس الكره لليهود لما ورد عنهم من آيات قرآنية لا يؤدي إلى تعبئة صحيحة عقلانية، بل إلى تهييج لا يثمر سوى الكراهية العمياء التي ليس لها مركز أو بؤرة أو هدف، وبالتالي يصبح الموقف من إسرائيل شكل من أشكال التعصب، وهو ما جعل دعاة التطبيع مع إسرائيل وبضغط من الولايات المتحدة ينادون بضرورة مراجعة المناهج الدراسية وإلغاء الآيات التي تتحدث عن اليهود باعتبار ذلك هو السبيل لإقامة سلام مع الصهاينة، وكأن الصراع معهم ليس له أسباب موضوعية، وإنما هو نتيجة ثقافة متعصبة، وهذا تسطيح للصراع وتجاهل لأسبابه الحقيقية وهي الاحتلال والدماء الفلسطينية التي نزفت وما تزال تنزف كل يوم.
[4] في التذكير بجرائم العدو:
«قتلة الفلسطينيين، لا قتلة الأنبياء»
يتحدث كثير من العلماء والدعاة وخطباء المساجد وهم يذكّرون بجرائم العدو الصهيوني، بأنهم قتلة الأنبياء ثم يسترسلون في ذكر الأمثلة: ألم يقتلوا يحيى بن زكريا ويهدوا برأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟ ألم يقل الله عنهم “ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ۖ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ” (المائدة: 70).
والحقيقة أن الاستشهاد بهذه الآيات القرآنية ومحاولة إسقاطها على اليهود والصهاينة في فلسطين اليوم يظهر ضحالة الخطاب الإسلامي المعاصر وهشاشته، وكيف أنه لم يرتقِ بعد، لا إلى مستوى الخطاب القرآني، ولا إلى مستوى التحديات المعاصرة، فأين هم الأنبياء الذين تقتلهم إسرائيل اليوم ؟!، إنهم يقتلون أطفال غزة، ونساء غزة، وشباب غزة، وشيوخ غزة، وتلك جرائم لا تقل عن جريمة قتل الأنبياء لأنه “ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا …” (المائدة: 132). وهو تصوّر بالغ القوة في الدلالة على بشاعة جريمة قتل الإنسان ظلماً بغير حق، إذ هي في هذا النص ليست عدواناً على الفرد فقط، ولا عدواناً على المجتمع كما تنص القوانين الجزائية أو الجنائية الوضعية، ولكنها شيء أكبر وأفدح، إنها عند الله سبحانه عدوان على الناس جميعاً، على الجنس البشري بأسره، هذا فيمن قتل نفساً واحدة، فكيف بمن قتل الآلاف كما فعل الصهاينة وما زالوا يفعلون.
ويكفي لبيان جرائم العدو الإسرائيلي ما تظهره الفضائيات هذه الأيام من قتل الأطفال والأبرياء بالمئات في قطاع غزة، أما قتل الأنبياء من قبل بعض اليهود قبل آلاف السنين فهي جريمة لا يتحمل وزرها سوى مقترفيها فحسب، إذ “ كُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) ” (الإسراء).
وقد ظل المسيحيون يحمّلون اليهود مسئولية قتل السيد المسيح قروناً – حتى برّأتهم الكنيسة الأوروبية في النصف الثاني من القرن العشرين- وهذا أمر لم يكن مقبولاً من المنظور الإسلامي، إذ في الإسلام “ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ …” (الإسراء: 15) أي لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جانٍ إلا على نفسه، وفيه أيضاً “ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ “ (البقرة: 141). ومثل هذا القول يفترض الاستمرارية الوراثية في الشر وهو أمر إلى جانب مناقضته للمبادئ الإسلامية يتفق – من حيث لا يدري أصحابه- مع المقولات الصهيونية التي تدعي وجود مثل هذه الاستمرارية والتواصل الجيني لأجيال اليهود عبر التاريخ، ولكن في الأفضلية والتفوق واعتبارهم “شعب الله المختار”، وهو أمر مرفوضٌ مع أن مثل هذه التفسيرات الحرفية للقرآن يمكنها أن تؤدي إلى تعزيز هذا التمييز العنصري المرفوض، إذ يمكن أن يستدل هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة “ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ” (البقرة: 47). وإذا كان هذا التفسير مرفوض إسلامياً باعتبار أن الآية خاصة ومشروطة وليست عامة ولا مطلقة، فإن ما ورد بشأن ذم بني إسرائيل ولعنهم كان خاصاً ومشروطاً وليس عاماً ولا مطلقاً أيضاً، لا في زمنهم ولا اليوم إذ” لَيْسُوا سَوَاءً … (” (آل عمران: 113) بنص القرآن. وعليه فإن الصحيح أن الصهاينة اليوم قتلوا أحمد ياسين لا يحيى بن زكريا، وأطفال غزة لا أنبياء بني إسرائيل، وبالتالي فهم مجرمو حرب لأنهم قتلة الفلسطينيين الأبرياء، لا لأنهم قتلة الأنبياء!.
[5] في الحديث عن نهاية الصراع:
«العمل بأسباب النصر بدلاً من انتظار المعجزات»
من سنن الله في الخلق أن الباطل لا يدوم وأن الحق سينتصر مهما طال الزمن، ولكن هذا النصر لا يأتي فجأة أو بالمصادفة، وإنما عبر العمل الدؤوب لتوفير أسبابه وشروطه المادية والمعنوية، وهو ما يفترض أن تتوجه نحوه الجهود. بيد أن الخطاب الديني للأسف، يتعامل مع هذه القضية من خلال المنهج النصوصي الذي ينتقى آية من هنا وحديث من هناك، ويحاول أن يفسّر بهما حركة التاريخ والواقع ومآلات الصراع مع إسرائيل. وقد أدى ذلك إلى بلبلة كبيرة في هذا الخطاب منذ بدء الصراع؛ فقبل قيام الدولة الصهيونية، ورغم أن السعي الدؤوب لإعلانها، لم يكن سراً وإنما كان يتم بخطوات عملية حثيثة، إلا أن كثير من العلماء التقليديين كانوا يهونون من هذا الخطر، ويؤكدون أنه لا يمكن أن ينجح، ولا يمكن أن يقوم لليهود دولة وينتصروا على المسلمين، إذ استدلوا بآيات قرآنية زعموا أنها تحفظ هذه النهاية، من مثل قوله تعالى عن اليهود في سورة البقرة “ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ… ” (البقرة 61)، وقوله في آل عمران “ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ… ” (آل عمران 112)، ثم قوله في سورة المائدة “ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ “(المائدة64) ثم قوله تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (الأعراف 167).
وقد حسبوا أن في هذه الآيات ضمانة إلهية في أن اليهود لن تقوم لهم دولة، وليس فيها ما زعموا ولكنهم أوّلوها على هواهم، فذهبت تأويلاتهم إدراج الرياح، وقامت دولة إسرائيل عام 1948، وخاض العرب معها حروب 1948 و1967 و1973، 1982 ولكنهم لم يلقوها في البحر، ولم ينتصروا عليها، وبحسب كثير من الإسلاميين كان ذلك بسبب أن راية القتال لم تكن إسلامية كما ينبغي، أما أمير جماعة التكفير والهجرة في مصر، فقد قدّم تفسيراً غريباً وظريفاً، فقد قال الله تعالى عن اليهود : لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (الحشر:14)، واليهود الآن لا يقاتلونكم كذلك، بل هم يقاتلونكم جميعاً من فيافي سيناء وهضبة الجولان وغرب نهر الأردن وجنوب لبنان وعلى خط السويس ومن مجاهل أفريقيا ومن كل مكان، وليس في قرى محصنة، ولا من وراء جدر، فإما أن تكونوا أنتم المؤمنون المخاطبون بقوله تعالى “يقاتلونكم”، ويكون الذين يقاتلونكم هم اليهود فعلاً، فيكون الله هو الذي خلف وعده وغرر جنده- تعالى الله- وإما أن تكونوا أنتم المؤمنون المخاطبون غير أن الذين يقاتلونكم ليسوا هم اليهود.. وذلك خلاف ما تشهد به حواسكم وأعينكم وجيلكم المنكوب، وإما أن يكون المخاطبون ليسوا أنتم- لا أنتم منهم ولا هم منكم، وهذا آخر الاحتمالات، فما قولكم؟، الحق أقول لكم: إن المسلمين لم يعرفوا ولن يعرفوا قتالاً إلا بالسيف والخيل والنبل، وأنه لم يكن هناك حرب في سبيل الله منذ أن تُرك هذا العتاد السالف الذكر، وأن الذين يدّعون أنهم يقاتلون اليهود اليوم ليسوا هم المسلمين. أنا قلتها صريحة مدوية: المعارك الإسلامية بريئة منهم، وهم براء منها”.
وما من شك أن معظم العلماء والدعاة يرفضون مثل هذا التأويل، لكنهم لا يغادرون المنهج النصوصي في تفسير الأحداث، فعندما قامت إسرائيل مؤخراً ببناء الجدار العازل، ارتفعت أصوات هؤلاء مبشرةً بقرب زوال إسرائيل وقتالنا لهم “من وراء جدار”، وتحقيق ما وعد به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه “لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر، يا مسلم يا عبدالله هذا يهودي خلفي، تعالَ فاقتُله إلا الغرقد، فإنه من شجر اليهود” [رواه البخاري ومسلم]. ورغم أن بعض العلماء كسعيد حوى على سبيل المثال، كان يرى أن هذا الحديث ينطبق على اليهود الذين يأتون مع الدجال، وليس في اليهود الذين يحتلون فلسطين الآن، بسبب المعجزات التي ستحدث في هذا القتال، إلا أن آخرين- ومنهم علماء مشهورين- يرون أن ذلك سيحدث مع يهود اليوم، ولم يستغربوا حدوث مثل هذا المعجزة، بل زعم بعضهم أن اليهود قد بدأوا نزع شجرة الغرقد بكثافة في المدن والمستوطنات الإسرائيلية!. وليس مستغرباً أن يروّجوا لمثل هذه الترهات، بعد أن صدقوا “آيات الرحمن في جهاد الأفغان”، والتي لم يدركوا ربما حتى اليوم أنها لم تكن سوى دعاية روّجت لها المخابرات الأميركية لدفع الشباب المسلم إلى أفغانستان لتصفية حسابها مع الاتحاد السوفيتي على حساب دماء المسلمين، وقد انطلت هذه الحيلة على كثير من المسلمين خصوصاً الذين كانوا مشاركين أو متحمسين للجهاد الأفغاني، والذين لم يدركوا ربما حتى اليوم أن صواريخ أميركا التي دعمت بها المجاهدين هي التي كانت تسقط طائرات السوفييت وتدمر دباباتهم لا أحجار المجاهدين وتكبيراتهم، وإلا لماذا لا نجد اليوم طائرة أميركية تسقط على يد المجاهدين الأفغان أنفسهم (طالبان)، وهم أكثر إيماناً وتديناً وتمسّكاً بالسنة من مجاهدي السوفييت؟
الاقتناع بمثل هذه التفسيرات اللاعقلانية هو ما نخشاه على القضية الفلسطينية، فبدلاً من أن تسعى الجماهير للضغط على الأنظمة الرسمية بدعم المقاومة بالأسلحة والعتاد، نخشى أن ينتظروا الحجر والشجر ليقوما بهذه المهمة، ويقدما الدعم اللوجستي للمجاهدين- كما يُفهم من الحديث السابق- مع أن مثل هذه المعجزة لم تحدث حتى للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين واجهوا عدواً شرساً، وكان في هزيمتهم قضاء على الإسلام نفسه؛ إذ كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر “اللهم أن تهلك هذه العصابة، فلن تُعبد بعدها أبدا”، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالأسباب في بدر، وعندما قصّر جيشه في أُحد كانت الهزيمة، ثم جاء الخطاب القرآني ليؤكد للمسلمين إلى يوم القيامة ضرورة الأخذ بالأسباب، وأن مجرد الإيمان وحده لا يكفي لتحقيق النصر، وأن من غَفِل عن هذه الأسباب فلا يلومن إلا نفسه، قال تعالى ” أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم” فهل يعي المسلمون ذلك؟.
*نشر هذا المقال في ” صحيفة قراءات سياسية ” الصادرة عن وكالة الأنباء اليمنية سبأ” 2008م